April 5, 2014

نصيحة المناضل اسياس افورقي رئيس دولة ارتريا

د. محمد إبراهيم منصور

د. محمد إبراهيم منصور

سألتنى صحيفة عربية أن أرتب أولويات الرئيس القادم ونظامه الجديد، الذى يوشك أن يولد بعد أيام قليلة من رحم ثورة 30 يونيو. قلت إن أمام الرئيس القادم فرصة نادرة لإعادة اللُحمة الوطنية ورأب الصدع الوطنى، وبناء إجماع جديد على خلفية الخطر المحدق بمياه النيل. دائماً كان الخطر المقبل من وراء الحدود هو الذى يوحد الصفوف المبعثرة، ويجمع أشتاتها المتناثرة، لا سيما إذا كان الخطر يهدد البقاء والوجود. فى الماضى البعيد كان الخطر الخارجى هو الذى يصهر القبائل المتقاتلة فى سبيكة قومية واحدة تصاغ من معدنها الأمم الحية. ومصر مهددة اليوم فى بقائها ووجودها كما لم تكن مهددة من قبل. وليس ثمة ملف يمكن أن يفتتح به الرئيس القادم يومه الأول فى قصر الاتحادية أخطر من ملف مياه النيل. فهو ملف «الحياة والموت» للمصريين، وثغرة الانكشاف الحقيقية فى أمنهم القومى. وهو ملف تؤجل من أجله ملفات مهمة أخرى، لا يمكن الاختلاف على أولويتها، وقد تكون لفرط أهميتها غير قابلة للتأجيل فى ظروف أخرى، لكن الإعلان المباغت عن بناء سد النهضة الإثيوبى، الذى استيقظ المصريون على كابوسه أزاح الملفات الأخرى جانبا.ً


بالإعلان عن النية الإثيوبية ثم الشروع الفعلى والمتعجل فى بنائه بمواصفات فنية تشكل افتئاتاً على حقوق مصر التاريخية والطبيعية فى موارد النهر، بعد التوسيع المبالغ فيه فى طاقة تخزينه إلى 74 مليار متر مكعب، وهو توسيع يجور على معدلات التدفق الآمن وعلى حصة مصر من مياه النيل، ويتجاوز الاحتياجات الإثيوبية للكهرباء وحقها فى التنمية. وهو حق واجب الاحترام، ومن الممكن القبول به فى ظل مبدأ التشاور والإخطار المسبق المتفق عليه فى الاتفاقات الدولية لتقاسم المياه فى الأنهار الدولية الكبرى. وبهذه الشروط المجحفة لحقوق دولة متشاطئة هى دولة المصب أصبحت حروب المياه المتوقعة حروباً مؤكدة، وأصبحت الأخطار المحتملة أخطاراً حالّة، وصدقت التوقعات التى حذرنا منها مبكراً فى نوفمبر 1997 بمناسبة انعقاد المؤتمر السنوى الثالث لمركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط حول «المياه العربية فى القرن الحادى والعشرين». كان «سد النهضة» أو «سد الألفية» كما كان يسمى حينها حلماً يسكن المخيال الشعبى للإثيوبيين. وكان «دهاقنة» الرى المصريون يستخفون بالنوايا الإثيوبية لبناء السدود بتسويق أفكار غير علمية تبعث الخدر والطمأنينة فى حكمتهم، مؤادها صعوبة -إن لم يكن مستحيلاً- بناء سدود على الهضبة الإثيوبية شديدة الانحدار دون أن تجرف مياه الفيضانات الكاسحة فى طريقها هذه السدود مهما كانت متانة بنيانها. وهو رأى يتجاهل دور التقدم التكنولوجى فى قهر قيود طبيعية أصعب! كان سدنة الرى المصريون المسئولون عن ملف الأزمة سادرين فى غى أفكار بالية، كالقول بأن الإثيوبيين أفقر من أن يفكروا فى بناء خزان مياه فى قرية إثيوبية نائية على الحدود السودانية يشرب منها الرعاة ودوابهم ما بالك بسدود عملاقة! وإن المنظمات الدولية والمانحين الأجانب ليس لديهم ثقة كبيرة أو صغيرة فى اقتصاد إثيوبى فقير ومنهك فى بلد يرقد على صفيح ساخن! وهو رأى يتغافل المصالح والأطماع الجديدة فى أفريقيا، ورغبة الصيد فى الماء العكر لقوى ودول قد ترى فى «تمويل» السد الإثيوبى فرصة لاستدراج مصر إلى جبهة جنوبية تلهيها عن الاندماج فى مقاومة المشاريع المبيتة لتفتيت الشمال!

ومن المفارقات أن تكون إدارة بعض موظفينا لملف العلاقات مع دول حوض النيل صورة مستعارة من سلوك الغزاة الأوروبيين الذين حطوا رحالهم فى أفريقيا فى القرن التاسع عشر، فراحوا يخطبون ود القبائل الأفريقية ويرشون شيوخها بهدايا الخرز الملون والملابس المزركشة، ونسينا أن أفريقيا شبت عن الطوق وبلغت سن الرشد وبعض بلدانها قطع شوطاً بعيداً على طريق الإصلاحات الاقتصادية والسياسية وبناء المؤسسات تشهد به تقارير دولية محايدة. وفشلنا فى إدارة أزمة المياه يُعزى -فى جزء كبير منه- إلى الفشل فى إدارة السياسة الأفريقية وخروجنا المخزى من القارة وتراجع دورنا فيها، وفقداننا لظهير سياسى أفريقى داعم فى أى تفاوض حول حقوقنا فى مياه النيل. وبينما نحن كذلك يتزايد نفوذ قوى أخرى، بعضهم أعداء تاريخيون للعرب والأفريقيين، بل وحلفاء سابقون لنظام التمييز العنصرى فى جنوب القارة كإسرائيل، والبعض الآخر كالصين وروسيا وماليزيا، وبعض العرب نسجوا مصالح اقتصادية واسعة مع أفريقيا، بينما أدرنا نحن ظهورنا لتاريخ طويل فى أفريقيا، بل ولأصدقاء أفريقيين ما زال وجدانهم مشدوداً إلى وهج الدور التحريرى والنضالى المصرى حتى بعد أن خبا هذا الوهج. وبعض هؤلاء شبوا فى مكاتب حركات التحرير الوطنية الأفريقية فى القاهرة فى الستينات من القرن الماضى. ويحلم البعض الآخر -وهم فى مقاعد الحكم الآن- أن تعود مصر سيرتها الأولى، وظلوا -حتى آخر لحظة- فى حياة نظام مبارك يراهنون على عودتها إلى دورها وتصويب وجهتها. كان آخر هؤلاء الأصدقاء الأفارقة الذين زاروا القاهرة قبل شهور من سقوط نظام مبارك المناضل الأفريقى أسياس أفورقى رئيس دولة إريتريا. فى تلك الزيارة نصح الرئيس أفورقى وزيراً مقرباً فى نظام مبارك، بأن تعيد مصر توجيه بوصلتها السياسية نحو الجنوب بديلاً عن استمرار الاتجاه غرباً. فالجنوب هو مجالها الحيوى الذى تقع فيه مصالحها الكبرى، مياه النيل، السودان، والبحر الأحمر. كان رد الوزير المصرى صادماً للرئيس أفورقى، وبالطبع صادماً لى وأنا أتابع باهتمام حديث الرئيس فى مكتبه المتواضع بالعاصمة أسمرا فى مايو 2010. كان رأى الوزير أن الوقت متأخر لتغيير دفة المصالح من الغرب إلى الجنوب. كنت أعلم مسبقاً أن ذلك موقف نظام قرر تهميش دورنا الأفريقى، وليس رأى وزير لا يرى فى النهاية إلا ما يراه سيده! كان رأى أفورقى الأهم أن بين مصر وإريتريا قواسم استراتيجية مشتركة أكبر من أن تُحصى، آن الأوان للنظام الجديد الذى يوشك أن يولد أن يبنى عليها توجهاته ومصالحه فى القرن الأفريقى وحوض النيل وفى القارة الأفريقية، بل وفى طور الاستعداد لاستخدام خيارات مفتوحة -إذا لزم الأمر- دفاعاً عن الحق فى الحياة.

عند الإعلان عن سد النهضة استدعت الذاكرة يوميات زيارة قصيرة لبلد أفريقى طموح واعد هو إريتريا يرقد على طرف القرن الأفريقى، وعلى خط التماس مع الخطر البازغ فى الجنوب، واستحضرت مقابلة طولها خمسون دقيقة مع رئيسها أسياس أفورقى سمعت فيها نصيحته الغالية لنظام مغتر سد أذنيه عن كل نصيحة، واستصحبت الشاعر العربى دريد بن الصمة يلوم قوماً تلكأوا «فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد!»
جريدة ” الوطن ” المصرية
الجمعة 28-03 – 2014

Latest Articles

መጅልስ አምን ወለዛልም ቀራራቱ...

ዕላል ምስ በንያም ሃይለ ደራሲ ‘ምኡዝ ዋዛታት ዋርሳይ...

Conversation with Dr. Tajedin N. Yousif